التورق

لا تزال بعض صيغ المعاملات المالية تثير جدلا متواصلا في أوساط الناس نظرا لتباين و اختلاف الآراء الفقهية حولها. و يعتبر التورق من بين هذه المعاملات التي إستأثرت بالإهتمام , خاصة ما يسمى منه بالتورق المنظم. و هو أحد المعاملات المالية التي تعرف إنتشارا واسعا في معاملات البنوك الاسلامية, رغم الجدل الذي يلاحق هذه الصيغة التمويلية.

و التورق هو شراء الشخص سلعة ليبيعها إلى آخر غير بائعها الأول للحصول على النقد. كأن يشتري شخص سلعة بثمن مؤجل ثم يبيعها لآخر نقدا ليحصل على ثمنها الحال لرغبته في الحصول على النقد. فإن باعها إلى بائعها الأول نفسه فهي العينة الممنوعة، أما إن باعها إلى طرف ثالث فهي التورق.

و يمكن التمييز بين ثلاثة أنواع من التورق:

أولا: التورق الحقيقي

يُقصد بالتورق الحقيقى (يسمى كذلك بالتورق الفردي أو التورق الفقهي) قيام فرد بشراء سلعة بثمن مؤجل أو مقسط, و بيعها لآخر بثمن معجل بهدف الحصول على النقد (الورق).

فالمشترى فى التورق – كالعِينة – لا يكون محتاجا إلى السلع، و إنما هي وسيلة للحصول على النقد. مما جعل البعض يعتبر التورق أحد صور العِينة، و إن اختلف عنها فى أن البيع فى العينة يكون لنفس البائع الأول أما فى التورق فيكون لغيره (طرف ثالث)، أي أن العلاقة فى العينة تكون علاقة ثنائية الأطراف, بينما فى التورق قد تكون ثلاثية أو رباعية.

يتضح مما سبق أن أهم خصائص التورق الحقيقى ما يلى:

– أن لا يبيع المشترى السلعة لبائعها الأول سواء أكان ذلك مباشرة أو بالواسطة، لأن هذا يدخل فى بيع العينة.
– وجود ثلاثة أو أربعة أطراف.
– عدم وجود تواطؤ بين الأطراف الثلاثة أو الأربعة.
– الهدف من التورق الحقيقى هو الحصول على السيولة النقدية.

و قد أجاز بعض الفقهاء التورق الحقيقي لما يلي:

– عموم قوله سبحانه و تعالى: «وأحل الله البيع و حرم الربا».
– الأصل فى المعاملات الحل و الإباحة.
– السلعة فى بيع التورق خرجت من ملك البائع ولم ترجع إليه (كالعينة).
– الحاجة ماسة إلى هذه المعاملة.

رغم عدم إجازة البعض التورق الحقيقي باعتباره صورة من صور بيع العِينة المنهي عنه شرعا, فإن المرجح هو القول الأول لسلامة أدلة القائلين به, و لأن الفرق بين الثمنين الآجل والحال ليس ربحا و لم يدخل فى ذمة البائع الأول، و إنما هو خسارة تحملها المستورق. و من الثابت شرعا أن الخسارة بغرض الحصول على النقد أمر جائز كما هو الحال فى بيع الوضيعة. كما أن البيع فى التورق يكون من المستورق لغير البائع الأول وهو ما يعنى استبعاد حيلة الربا.

غير أن هذا الجواز يجب أن يكون مرهونا بالشروط و الضوابط التالية:

  1. وجود السلعة محل التورق وتملك البائع  الأول لها قبل بيعها.
  2. أن تكون السلعة محل التورق من غير الذهب أو الفضة أو العملات الورقية المعاصرة.
  3. أن تكون السلعة معينة تعيينا يميزها عن الموجودات الأخرى للبائع الأول. مع تحديد الصنف والكمية والجودة.
  4. أن يكون الشراء من المتورق حقيقيا لا صوريا.
  5. أن يقبض المتورق السلعة حقيقة أو حكما بالتمكن.
  6. أن يكون بيع السلعة محل التورق لغير البائع الذي أُشتريت منه بالأجل سواء تم ذلك مباشرة أو بالواسطة تجنبا لبيع العِينة.
  7. أن لا يكون هناك ربط بين عقد شراء السلعة بالأجل، وعقد بيعها بالنقد.
  8. أن يكون التورق بين الأفراد بصورة فردية وعفوية لا منظمة.

فإذا توافرت هذه الشروط خرجت المعاملة من شبهة العينة و التحايل على الربا, و من ثم يُحكم بجوازها. أما إذا لم تتوافر هذه الشروط فالمعاملة غير جائزة لأن المقصود فى هذه الحالة يكون التحايل على الربا.

و قد قرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة عام 1998, في ما يخص موضوع حكم بيع التورق, قرر ما يلي:

أولا: أن بيع التورق هو شراء سلعة في حوزة البائع وملكه، بثمن مؤجل ثم يبيعها المشتري بنقد لغير البائع، للحصول على النقد ( الورق).
ثانيا: أن بيع التورق هذا جائز شرعا، و به قال جمهور العلماء لأن الأصل في البيوع الإباحة لقول الله تعالى: ” و أحل الله البيع و حرم الربا “. و لم يظهر في هذا البيع ربا لا قصدا و لا صورة، و لأن الحاجة داعية إلى ذلك لقضاء دين، أو زواج أو غيرهما .
ثالثا: جواز هذا البيع مشروط بأن لايبيع المشتري السلعة بثمن أقل مما اشتراها به على بائعها الأول، لا مباشرة ولا بالواسطة. فإن فعل فقد وقعا في بيع العينة المحرم شرعا لإشتماله على حيلة الربا فصار عقدا محرما .
رابعا: إن المجلس و هو يقرر ذلك يوصي المسلمين بالعمل بما شرعه الله سبحانه لعباده من القرض الحسن من طيب أموالهم ، طيبة به نفوسهم ، ابتغاء مرضاة الله ، لايتبعه منّ ولا أذى وهو من أجل أنواع الإنفاق في سبيل الله تعالى، لما فيه من التعاون والتعاطف ، والتراحم بين المسلمين ، وتفريج كرباتهم ، وسد حاجاتهم ، وإنقاذهم من الإثقال بالديون ، والوقوع في المعاملات المحرمة ، وأن النصوص الشرعية في ثواب الإقراض الحسن ، والحث عليه كثيرة لاتخفى كما يتعين على المستقرض التحلي بالوفاء ، وحسن القضاء وعدم المماطلة.

ثانيا: التورق المصرفي

يُقصد بالتورق المصرفي قيام البنك بالاتفاق مع شخص محتاج إلى النقد, على أن يبيع له سلعة إلى أجل بثمن أكبر من ثمن النقد، على أن يوكل المُشتري البنك ليبيع له هذه السلعة بثمن نقدي أقل عادة من الثمن المؤجل الذى اشترى به السلعة. ليحصل المتورق بذلك على الثمن النقدي وتبقى ذمته مشغولة للبنك بالثمن الأكبر لهذه المعاملة بالإضافة لمصروفاتها.

بالتالي فإن التورق المصرفي يتم من خلال الإجراءات التالية :

  1. قيام البنك (المُورق) بشراء سلعة (محل التورق). و قد يكون ذلك بناءا على وعد من العميل بالشراء أو بدون وعد سابق.
  2. قيام البنك ببيع هذه السلعة إلى العميل( المتورق/ المستورق ) مساومة أو مرابحة بثمن أكبر من ثمن النقد. و يترتب على ذلك جعل العميل مدينا بثمن البيع الآجل.
  3. قيام العميل بتوكيل البنك ببيع هذه السلعة نقدا.
  4. قيام البنك ببيع السلعة بناءا على توكيل العميل.

و  يترتب على ذلك جعل العميل مدينا بكافة فروق الأسعار والمصروفات الإدارية التى تخص العملية, و دائنا بثمن البيع النقدي بعد إتاحته فى حسابه الجاري للصرف منه عن طريقه.

وقد سمي هذا التورق بالتورق المنظم أو التورق المؤسسي لأنه يتم ضمن آليات وخطوات إجرائية و تعاقدية مرتبة و منظمة. و لم يجز بعض الفقهاء التورق المصرفي قياسا على العِينة، في حين أجازه البعض بالضوابط التالية:

– وجود السلعة محل التورق و تملك البائع  الأول لها قبل بيعها.
– أن تكون السلعة محل التورق من غير الذهب أو الفضة أو العملات الورقية المعاصرة.
– أن تكون السلعة معينة تعيينا يميزها عن الموجودات الأخرى للبائع الأول مع تحديد الصنف والكمية والجودة.
– قيام البنك بشراء هذه السلعة مع تحقق القبض.
– شراء العميل (المستورق) من البنك السلع التى يمتلكها بثمن آجل مع تحقق القبض.
– قيام العميل (المستورق) ببيع السلع التى اشتراها فعلا نقدا لغير البائع الذى أُشتريت منه بالأجل سواء أكان ذلك مباشرة أو بالواسطة تجنبا لبيع العِينة. ويمكن أن يكون هذا البيع مباشرة أو بموجب توكيل سواء أكان ذلك بأجر أو بدون أجر. و في الحالة الأخيرة يلزم أن يكون الأجر هو أجر المثل، ولا يجوز أن يكون نسبة من ثمن المبلغ.
– أن لا يكون هناك ربط بين عقد شراء السلعة بالأجل، وعقد بيعها.
– عدم تقديم البنك أي نقود للعميل (المستورق) إلا بعد أن يبيع السلعة بموجب توكيل.
– أن يكون اللجوء إلى التورق للضرورة والحاجة الملحة واستثناء من الأصل.
– تمايز و استقلال و عدم تداخل مراحل تنفيذ التورق.

و الهدف من هذه الضوابط هو تفادي الصورية سواء من جهة المستورق أو البنك لئلا تُفضىي المعاملة إلى تمويل محض بزيادة تؤدى إلى البنك.

و إذا ما تم التورق المصرفي وفقا للخطوات والإجراءات السابقة, فإن حكمه يكون حكم التورق الحقيقي، غير أن الواقع العملي يؤكد خلاف ذلك. حيث يشير واقع التورق المصرفي الذى تجريه البنوك الاسلامية إلى ما يلي:

  • أن المتورق يأتي للبنك الاسلامي و ليس فى قصده سوى قيام المصرف بايداع النقود فى حسابه دون أن يعنيه أصناف وكميات وجودة وأثمان السلعة التى يشتريها، وذلك بفرض أن هناك سلعة بالفعل، فقصد العميل هو الحصول على النقد. أما قصد المصرف فيكون هو الحصول على دينه مع الزيادة  الناتجة عن الأجل.
  • طالما أن السلعة ليست مقصودة لذاتها، فليس من مصلحة العميل ولا البنك الاسلامي قبض السلعة ولا حيازتها. ولذا، فلا يوجد سلعة فى الكثير من الأحيان – كما سبقت الإشارة – ، كما لا توجد وثائق تفيد تملك وحيازة المصرف للسلع موضوع التورق.
  • فى حالة وجود سلعة، فقد تكون هذه السلعة ذهبا أو فضة،  ومن المسلم به شرعا عدم جواز بيع الذهب والفضة بالأجل.
  • تداخل وعدم تتابع و تمايز الخطوات التنفيذية للإجراءات مع قيام العميل بالتوقيع على النماذج والعقود وغيرهما من المستندات فى توقيت واحد.
  • عادة ماينص عقد التوارق على وكالة البنك الاسلامي عن المستورق في بيع السلعة التي سبق أن اشتراها له.

و يترتب على ما سبق ما يلي:

  • إنتفاء القبض الشرعي، إذ لم يتحقق قبض البائع (البنك الاسلامي) للسلعة التي باعها للمستورق، كما لم يتحقق قبض المستورق للسلعة المشتراة من البنك.
  • أن ما يدخل فى ملك البنك يتمثل فى الفرق بين الثمن الآجل والحال.
  • ثبوت دين فى ذمة المتورق، وهذا الدين فيه زيادة بسبب الأجل، مما يعنى أن العملية زيادة فى الدين نظير الآجل.

على ضوء هذا الواقع، يرى البعض عدم جواز التورق المصرفي في البنوك الاسلامية للأسباب التالية:

1- أن نية البيع والشراء غير موجودة ولا مقصودة فى التورق، فالمشترى لا يرغب فى شراء السلعة وإنما هدفه الحقيقي هو الحصول على النقد فى الحال ليسدد بدلا عنها أكثر منها فى المستقبل، والمصرف الاسلامي ليس هدفه البيع – بفرض أنه يمتلك السلعة – وإنما هدفه، كما سبقت الإشارة، الحصول على الزيادة نتيجة الأجل، وما الشراء والبيع إلا حيلة لتغطية المقصود الحقيقي لكل طرف. وكل من موظفى المصرف والعميل يعلمان ذلك. وقد أجمع الصحابة والفقهاء على منع التحايل على المحرمات ومنها زيادة الدين بالأجل لأنه استخفاف بأحكام الشرع واستحلال المحرمات، فهو أشد من إتيان المحرم صراحة.
2- أن العقود التي لم يُقصد حقيقتها وإنما يقصد بها إستحلال ما حرمه الله من الربا، أو غيره،  بالتواطؤ و التحايل بين أطراف العقد لا يمكن إضفاء المشروعية عليها.
3- من المسلم به شرعا ضرورة قبض العميل ( المشتري ) للسلعة بعد شرائها من البنك الاسلامي وقبل إعادة بيعها لصالحه، وذلك أن عدم القبض يؤدي إلى ربح مالم يضمن وهو منهي عنه شرعا. ويؤكد واقع الممارسات المصرفية للتورق قيام العميل بتوكيل المصرف في قبض السلعة، فالمتعامل لا يقبض السلعة المشتراه فعلا، بل و لا حكما، بل وقد لا تكون هناك سلعة في الواقع.
ولعل السبب فى ذلك هو سعي البنك الاسلامي إلى بيع السلعة نيابة عن العميل بثمن وبدون أن يتحمل العميل مصاريف القبض والحيازة والنقل والتسويق وهو ما يحقق مصلحة للطرفين، فالمصرف يجذب شريحة أكبر من الراغبين فى التمويل ومن ثم أرباح أعلى والعميل يحصل على تمويل بتكلفة أقل.
4- أن السلعة لا وجود لها فى دفاتر المستورق ولا فى دفاتر البنك، حيث تسفر المعالجات المحاسبية عن مديونية المتورق ودائنية البنك مع تحميل المتورق فرق السعر بين البيع الناجز والآجل وعمولات الوسطاء والمصروفات المختلفة.
5- أن التورق المصرفي لا يختلف عن التمويل الربوي إلا من حيث الآليات والإجراءات الشكلية, بالتالي فإن المعنى الذي من أجله حُرم الربا موجود في التورق المصرفي مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها. فضلا عن تعقيد المستندات التي تحاول إخفاء حقيقة الربا ومع زيادة المكر والخداع والإجراءات.
6- طالما أنه لا يوجد سلعة حقيقية، وطالما أن هدف العميل هو الحصول على النقد، وهدف البنك هو الزيادة فى الدين، فإن تعسر العميل يعني دخول المصرف والعميل فى عمليات تورق جديدة.
7- هناك العديد من الشبهات حول ما يُعرف باسم التوكيل الشامل والذى يُعطي للبنك حق البيع والشراء لحساب العميل.
8- أن التزام البنك في عقد التورق ببيع السلعة المشتراه إلى آخر أو ترتيب من يشتريها يجعلها شبيهة ببيع العِينة.
9- يترتب على التورق المصرفي شراء سلعة بثمن أعلى من الثمن الذى تُباع به وفي هذا إضاعة للمال فضلا عن منافاته لوجوب حفظ المال واعتبار ذلك أحد المقاصد الشرعية.
10- أن عملية التورق المصرفي تشمل بطبيعة تنظيمها – فى الواقع العملي – عدة شروط أهمها:

– شرط شراء المتورق السلعة من البنك الاسلامي.
– شرط قبول المتورق لبيع السلعة بثمن أقل.
– شرط توكيل المتورق للبنك الاسلامي في إعادة بيع السلعة.
– شرط عدم فسخ الوكالة.

وهذه الشروط كلها تفضى الى الصورية والشكلية بل وتؤكد على قصد الحصول على النقد.

11- يمثل التورق المصرفي عقدا مركبا من عدة عقود، وإذا كان كل عقد من هذه العقود بمفرده لا خلاف عليه إلا أن الربط بين هذه العقود في عقد مركب تجعل منه عقد لا يختلف عن التمويل بفائدة .
12- أن مساوىء هذا التحايل على الفرد والمجتمع أكبر من مساوىء التعامل بالربا مباشرة لأن الذين يتحايلون يظنون أنهم بعيدون عن الحرام فيتمادون فى ممارسات ربوية مدمرة فتتفاقم البلوى.
13- أن قيام البنوك الإسلامية بمزاولة التورق المصرفي – كامتداد للمرابحات التى لم تخل بدورها من المحاذير الشرعية – و ترك الصيغ التى تقوم على الإستثمار الحقيقي وتهدف الى تحقيق التنيمة الاجتماعية والاقتصادية كالسلم والمشاركات والمضاربات والإجارة والإستصناع. يُعد نكسة للعمل المصرفي الإسلامي, و لن يؤدي إلا إلى فقدان الثقة فى المصرفية الإسلامية, بل وفقدان تلك المصرفية لأساس وسند وجودها ومشروعيتها.
14- أن الأثر الإقتصادي للعينة لا يختلف عن الأثر الإقتصادي للربا، بل قد يكون أسوأ منه لتضمنه تكلفة إجرائية، فالسلعة الواحدة يمكن استخدامها من أجل الحصول على النقد عشرات المرات، فالعميل يشتري السلعة بأجل ثم يبيعها بالنقد ثم يشتريها عميل آخر ليبيعها بالنقد وهكذا. الأمر الذى يترتب عليه ديون على مستوى المجتمع لا يقابلها سلع حقيقية.
15- أن هذه الحيلة، وغيرها من الحيل، لها أثرها السلبي على الإسلام والإقتصاد الإسلامي، والصد عن سبيل الله.

و يتضح مما سبق أن واقع التورق المصرفي و بشكله المعاصر يقوم على منح تمويل نقدي بزيادة. ولذا، فهو لا يخرج عن عقد الربا. كما أن التورق بهذه الصيغة لا يشابه التورق الحقيقي الذي تم ترجيح جوازه, إذ أن هناك فروقا جوهرية بينهما لعل أهمها ما يلي:

  • يقوم التورق الحقيقي على شراء حقيقي للسلعة بثمن آجل تدخل فى ملك المشتري ويقبضها قبضا حقيقيا وتدخل فى ضمانه ثم يقوم ببيعها بثمن حال لحاجته الى النقد، والأمر خلاف ذلك فى التورق المصرفي فالشراء والبيع ورقي و لا يوجد قبض, و لا تدخل السلعة فى ضمان المُشتري.
  • يجمع التورق الحقيقي بين عقدين منفصلين عن بعضهما البعض، الأول عقد شراء يبدأ ثم ينتهي، والثاني عقد بيع يبدأ بعد انتهاء الأول. أما فى التورق المصرفي فإن عملياته متداخلة مع بعضها البعض حيث يقوم البنك الاسلامي بجميع هذه العمليات، و بمجرد توقيع العميل على الأوراق تتم عملية البيع والشراء, ويجعل العميل مدينا بثمن البيع الآجل ومصروفات العملية, و دائنا بثمن البيع النقدي.
  • يقوم التورق المصرفي المنظم على كون البنك الاسلامي وكيلا عن المشتري في بيع السلعة التي اشتراها منه, في حين لا يوكل المتورق المورق في التورق الحقيقي.
  • تدور السلعة في التورق الحقيقي من مالك إلى متورق ثم مالك جديد ومنه إلى أطراف أخرى. أما في التورق المصرفي المنظم فالسلعة قد ترجع إلى الشركة التى باعتها إلى البنك الاسلامي وذلك بفرض أنها إنتقلت، بل وبفرض وجودها.
  • يقوم البنك (المورق) في التورق المنظم ببيع السلعة نقدا لمصلحة المتورق في حين لا يكون للمورق في التورق الحقيقي أي علاقة بالمشتري النهائي.
  • يقوم التورق المصرفي على وجود تواطؤ مسبق بين العميل والبائع، فهدف الأول هو الحصول على النقد وهدف الثاني هو الحصول على الزيادة، في حين لا يلزم هذا التواطؤ فى التورق الحقيقي إذ قد يوجد كما قد لا يوجد.

ولعل هذه الأسباب هي التى دعت مجمع الفقه الإسلامي فى دورته الخامسة عشر  إلى إجازة التورق الحقيقي (الفردى) بضوابطه وعدم إجازة التورق المصرفي فى دورته السابعة عشر. و مما جاء في القرار:

بعد الاستماع إلى الأبحاث المقدمة حول الموضوع ، والمناقشات التي دارت حوله ، تبيَّن للمجلس أن التورق الذي تجريه بعض البنوك في الوقت الحاضر هو :

قيام المصرف بعمل نمطي يتم فيه ترتيب بيع سلعة ( ليست من الذهب أو الفضة ) من أسواق السلع العالمية أو غيرها ، على المستورق بثمن آجل، على أن يلتزم المصرف – إما بشرط في العقد أو بحكم العرف والعادة – بأن ينوب عنه في بيعها على مشتر آخر بثمن حاضر ، وتسليم ثمنها للمستورق .

وبعد النظر والدراسة ، قرر مجلس المجمع ما يلي :

أولا: عدم جواز التورق الذي سبق توصيفه في التمهيد للأمور الآتية :

1. أن التزام البائع في عقد التورق بالوكالة في بيع السلعة لمشتر آخر أو ترتيب من يشتريها يجعلها شبيهة بالعينة الممنوعة شرعاً ، سواء أكان الالتزام مشروطاً صراحة ، أم بحكم العرف والعادة المتبعة .
2. أن هذه المعاملة تؤدي في كثير من الحالات إلى الإخلال بشروط القبض الشرعي اللازم لصحة المعاملة.
3. أن واقع هذه المعاملة يقوم على منح تمويل نقدي بزيادة من البنك للمستورق ، وعملية البيع والشراء تكون صورية في معظم أحوالها . وهذه المعاملة غير التورق الحقيقي المعروف عند الفقهاء ، وقد سبق لـ ” المجمع ” في دورته الخامسة عشرة أن قال بجوازه بمعاملات حقيقية وشروط محددة بينها قراره. وذلك لما بينهما من فروق عديدة فصلت القول فيها البحوث المقدمة. فالتورق الحقيقي يقوم على شراء حقيقي لسلعة بثمن آجل ، تدخل في ملك المشتري ، ويقبضها قبضا حقيقيا ، وتقع في ضمانه ، ثم يقوم ببيعها هو بثمن حالٍّ لحاجته إليه ، قد يتمكن من الحصول عليه ، وقد لا يتمكن ، والفرق بين الثمنين الآجل والحال لا يدخل في ملك المصرف الذي طرأ على المعاملة لغرض تبرير الحصول على زيادة لما قدم من تمويل لهذا الشخص بمعاملات صورية في معظم أحوالها ، وهذا لا يتوافر في المعاملة المبينة التي تجريها بعض المصارف .

ثانيا: يوصي مجلس المجمع جميع المصارف بتجنب المعاملات المحرمة ، امتثالاً لأمر الله تعالى. كما أن المجلس إذ يقدر جهود البنوك الاسلامية في إنقاذ الأمة الإسلامية من بلوى الربا, فإنه يوصي بأن تستخدم لذلك المعاملات الحقيقية المشروعة دون اللجوء إلى معاملات صورية تؤول إلى كونها تمويلا محضا بزيادة ترجع إلى الممول.

رابعا: مفهوم وحكم التورق العكسي

يقصد بالتورق العكسي قيام العميل بتسليم البنك الإسلامي مبلغ من المال, و يُوكله فى شراء سلعة محددة بذلك المبلغ فيشتريها البنك ويبيعها لنفسه بثمن مؤجل وبهامش ربح متفق عليه (فهو يضمن له رأس مال وربح) يتم الاتفاق عليه بينهما.

ويتضح مما سبق أن إجراءات تنفيذ الاستثمار بالوكالة تعتمد على ثلاث خطوات:

  1. توكيل من العميل (الموكل) بشراء السلع لصالحه.
  2. بيع الموكل على الوكيل (البنك الاسلامي) أو الوكيل على نفسه مرابحة إلى أجل.
  3. بيع الوكيل للسلع ليحصل على النقد.

و يعتبر التورق العكسي أحد الوسائل لجذب المودعين وتحقيق أرباح لهم مع توفير السيولة للمؤسسات المالية الإسلامية، (بعكس التورق الذى يكون مصدر سيولة للعميل). ولذا، فإن التورق العكسي يُعد منتجا بديلا للودائع إلى أجل فى البنوك التجارية.

و إذا كان التورق يتعلق بجانب استخدامات الأموال فى البنوك، فإن التورق العكسي أو مقلوب التورق يتعلق بجانب استقطاب هذه الأموال, أي استخدام التورق في الحصول على النقد – وبمعنى آخر فإن البنك يكون هو المدين والعميل هو الدائن ( أى عكس التورق).

و التورق العكسي غير جائز لنفس أسباب عدم إجازة التورق المصرفي, فهو مماثل لبيع العِينة المحرمة شرعا، فالسلعة ليست مقصودة لذاتها، كما أن هذه المعاملة تدخل فى مفهوم التورق المنظم والذى كان به من العلل ما سبقت الإشارة إليه. ولذا فقد رأى مجمع الفقه الاسلامي في دورته التاسعة عشر عدم جواز التورق العكسي.

و قد قرر المجلس عدم جواز هذه المعاملة لما يلي:

  1. أن هذه المعاملة مماثلة لمسألة العينة المحرمة شرعا، من جهة كون السلعة المبيعة ليست مقصودة لذاتها، فتأخذ حكمها، خصوصا أن البنك يلتزم للعميل بشراء هذه السلعة منه.
  2. أن هذه المعاملة تدخل في مفهوم” التورق المنظم” وقد سبق للمجمع أن قرر تحريم التورق المنظم بقراره الثاني في دورته السابعة عشرة، وما علل به منع التورق المصرفي من علل يوجد في هذه المعاملة.
  3. أن هذه المعاملة تنافي الهدف من التمويل الإسلامي، القائم على ربط التمويل بالنشاط الحقيقي، بما يعزز النمو والرخاء الاقتصادي.

و المجلس إذ يقدر جهود المصارف الاسلامية في رفع بلوى الربا عن الأمة الإسلامية، ويؤكد على أهمية التطبيق الصحيح للمعاملات المشروعة والابتعاد عن المعاملات المشبوهة أو الصورية التي تؤدي إلى الربا المحرم فإنه يوصي يما يلي:

  1. أن تحرص المصارف والمؤسسات المالية على تجنب الربا بكافة صوره وأشكاله؛ امتثالا لقوله سبحانه “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ” .
  2. تأكيد دور المجامع الفقهية، والهيئات العلمية المستقلة، في ترشيد وتوجيه مسيرة البنوك الإسلامية لتحقيق مقاصد وأهداف الاقتصاد الإسلامي.
  3. إيجاد هيئة عليا في البنك المركزي في كل دولة إسلامية، مستقلة عن المصارف التجارية، تتكون من العلماء الشرعيين والخبراء الماليين لتكون مرجعا للبنوك الاسلامية، والتأكد من أعمالها وفق الشريعة الإسلامية.

لا يخفى ما في التورق من خطورة لقربه في الإجراءات من بيع العِينة المحرم، مع اختلافه جوهريا عنه. لذلك يتطلب دقة متناهية في تنفيذه وفق الضوابط الشرعية، فضلا عن الحذر من بعض التعاملات المشبوهة التي تتبعها بعض البنوك الاسلامية للإلتفاف على الربا تحت مسميات و صيغ اسلامية.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button

Adblock Detected

الموقع يعتمد على الاعلانات لكي يستمر. المرجو دعمنا من خلال تعطيل مانع الاعلانات و شكرا لتفهمكم